تمتلك الدراما التليفزيونية قوة تأثير على المشاهدين الذين يندمجون مع العمل الفني ويتعايشون معه، وبالتالي يتحكم في استيعابهم للأشياء حسب منظور المؤلف وصناع العمل، فنجد تأثر المشاهدين بما يُعرض على الشاشة كالتنميط الذي يتبعه معظم المؤلفين أثناء عرض شخصيات معينة مثل السكرتيرة، الممرضة، الخادمة وغيرها من الوظائف، وتتطابق نظرة الجمهور لهذه الوظائف مع ما تحدده الدراما ويحكمون على الوظيفة طبقًا لما شاهدوه من أفعال عُرضت على الشاشة.
ملاك رحمة أم استغلالية
تركز الدراما في المجتمع العربي بصفة عامة، والمجتمع المصري خاصة على سلبيات الأفراد وسلوكياتهم وتجتهد في تبريرها حسب أهواء المؤلف، وتختلف الشخصيات وسلوكياتها طبقًا للزمن والنمط الثقافي والاجتماعي السائد في المجتمع، فقديمًا كانت الممرضة هي ملاك الرحمة البشوشة المساعدة.
ولكن مع تطور الدراما وظهور معتقدات جديدة في المجتمع تغيرت شخصية الممرضة، ومن هذا المنطلق تبخرت صورة ذات الرحمة والساهرة لأجل راحة المرضى وأصبحت في جانب من صورتها فتاة استغلالية مادية قاسية القلب لا تهتم بحالة المريض قدر اهتمامها بأمواله.
وعند تحليل الأفلام المصرية نجد مثلًا الممرضة التي تسعى لاستغلال مريض وسرقة أعضاءها في فيلم “الحرامي والعبيط” الذي عُرض سنة 2013، أو تلك التي تتقرب من رجل أعمال أثناء مرضه واحتجازه بالمستشفى وتجعله يتزوجها كزوجة ثالثة في مسلسل “زهرة وأزواجها الخمسة” عام 2010.
وبسبب هذه النظرة المتدنية للممرضة واجه المسلسل هجوم شديد وقت عرضه حيث اعتبرته الممرضات المصريات إهانة لهن وإساءة لواجباتهن واتهام بالإهمال في تأدية مهامهن، ووقتها طالبت نقابة الممرضات الإعلام بالحيادية والموضوعية في عرض الإيجابيات والسلبيات، ومن أبرز الأعمال التي تناولت شخصية الممرضة نحن لا نزرع الشوك، لحظات حرجة، طريق الأبطال، أوبرا عايدة، يوم وليلة، وزهايمر.
التمريض مهنة إنسانية قبل أي شئ، هكذا استهلت نجوى زين العابدين، حكيمة في مستشفى الجامعة بطنطا، حديثها عن تناول الدراما لشخصية الممرضة وتنميط صورتها، وأشارت إلى أن ما تقدمه الأعمال الفنية ليس حقيقيًا فنجد تجويد المؤلف ومحاولته إقناع المشاهدين بأن المعروض يمثل المجتمع، فالتمريض يتضمن جوانب السلوك الجيد والسئ كطبيعة أي مهنة، وعن تقبل العائلة للوظيفة قالت: “والدتي شجعتني وسجلتلي في المدرسة وأنا مكنتش موافقة، البيت مكنوش معترضين ومقتنعين بإن طالما قايمين بدورهم في التربية يبقى مخافش من حاجة”.
وترى مريم محمد، طالبة بكلية الإعلام ومؤسسة صفحة أرشحلك فيلم، أن الدراما المصرية لا تتنوع في عرض جوانب الشخصيات، فمثلًا لا تظهر مهام الممرضة أو الجانب الوظيفي بقدر اهتمامهم بالجانب السئ، فتحصرها في كيفية استغلالها للمريض وسعيها للحصول على الأموال مقابل إلحاق الأذى به سواء بالأدوية أو فصل الأجهزة الطبية عنه.
السياسيون ورجال القضاء
“كلنا فاسدون لا أستثني أحدًا”.. واحدة من أشهر مرافعات السينما المصرية في “ضد الحكومة” والذي عُرض سنة 1992، وكشف العمل السينمائي حينها من خلال شخصية المحامي مصطفى خلف “أحمد زكي” عن سلوك شريحة من رجال القانون الذين يستغلون ثغراته ويتلاعبون بالحيل للدفاع عن المشبوهين والمنحرفين، وهي صورة يتبناها أغلب صناع الدراما في عرضهم لشخصية المحامي فيصورونه كمنقذ وحَلال فوري للمشاكل والأزمات يخالف شرف مهنته لأجل المال.
نقاد الفن اعتبروا بأن الدراما المصرية ركزت في عرض هذه النظرة النمطية عبر سلسلة من الأفلام، تتبع نفس النهج سواء بصورة درامية أو كوميدية، ومنها محامي خلع، اللمبي 8 جيجا، طيور الظلام، حرب إيطاليا، ملاكي إسكندرية والأفوكاتو.
أما ما يتعلق بالسياسيين فلا تقتنع الدراما بعرض صورة إيجابية تتناول جهودهم في تقديم حلول لمشكلات الدولة، بل تعرض نصبهم وطمعهم وخروجهم عن القانون وارتكابهم جرائم بدون عقاب وأبرز دليل على ذلك دور أحد زكي في فيلم “معالي الوزير”، أو فيلم “الراقصة والسياسي” التي يتبع الوزير فيها نفس الأساليب الملتوية وارتكاب أفعال غير أخلاقية، وكذلك فيلم “المرأة والساطور” والذي عرض الجوانب النفسية المشينة ومساوئ بعض المناصب، وقدم الفيلم العديد من الأمور غير السوية التي يرتكبها هؤلاء المسؤولين تنكرًا في كنيتهم وقدرتهم على تجاوز الدستور وقوانينه.
لا تعترف الدراما سوى بنمطين لشخصية المحامي، حسب رأي مريم محمد، فإما تعرضه شخص مسالم عديم الشخصية وغير مشهور ولا يمتلك قدر كبير من الذكاء، أو تعرضه كشخص متسلط قوي يعمل لصالح الأغنياء ممن يرتكبون أفعال غير سوية ولا يقف في صف الحق، وترى أن التنويع من جهة نظرها تحقق في مسلسل “Suits بالعربي” المعروض سنة 2022، والذي دارت أحداثه في مكتب محاماة شهير وبالتالي تنوعت شخصيات المحامي به وأمكن البعد عن التنميط والتسطيح.
السكرتيرة زوجة ثانية
لا تسعى الدراما إلى التجديد في سمات هذه الشخصية بالتحديد وتعمل على زيادة تنميطها وعرضها في الصورة السيئة، فهي إما طامعة ترغب في الزواج من مديرها في العمل لتستولى على أملاكه، أو يحركها جشعها لقتله تحقيقًا لمصالحها، أو تعاون أعدائه وتساعدهم بمعلومات وأوراق خاصة به لتدميره، أو تحاول استغلال توتر علاقة المدير بزوجته وتقنعه بالزواج منها، وتتجاهل كل هذه الأعمال مستوى السكرتيرة الثقافي والاجتماعي وكل مؤهلاتها العلمية ولبقاتها في الحديث والإقناع وذكاءها وتضعها فقط في صورة غير سوية متجاهلة إيجابياتها العديدة.
وتتعدد جوانب وظيفة السكرتيرة في الدراما المصرية ولكنها تُعرض في أغلب الأعمال بصورة متدنية، ومن هذه الأعمال ملاكي إسكندرية، طيور الظلام، حلم عزيز، موضوع عائلي، ونحب تاني ليه، المنسي، زنقة ستات، خادمة ولكن.
ويرجع العديد من النقاد في تصريحات سابقة بأنه وبسبب كل هذه الأعمال ترفض عدد كبير من العائلات عمل فتياتهن كسكرتيرة نظرًا للصورة النمطية السيئة التي دعمتها الدراما المصرية، فغالبًا تعرض السكرتيرة فتاة جشعة كل هدفها السيطرة على المدير وإقامة علاقة معه كنوع من الاستسهال في تقديم أفلام تدور في إطار اجتماعي ترضي شباك التذاكر، فلم تقدم الواقع على حقيقته وإنما في صورة شخصية لا تتغير مبادئها أو أخلاقها ولا يمكن اختزال المهنة في هذا النمط السطحي.
محتال ونصاب
تتباين طريقة تقديم الدراما لشخصية “المعلم” ما بين مربي الأجيال الطموح كفيلم السفيرة عزيزة، أو استهزاء لمن يتحدث منهم باللغة العربية وتقديمه في صورة مضحكة ويتخلى عن أفكاره وطموحاته مثل رمضان مبروك أبو العلمين حمودة، وبذلك نمطت السينما دور المدرس ورسخت بعض الصور النمطية في أذهان المشاهدين ونتذكرها بمجرد الحديث عن المعلمين، فلا يمكن نسيان شخصية “أستاذ حمام” في فيلم “غزل البنات” صاحب المبادئ والقيم الرفيعة وبالتالي تتحكم في مهنته كمعلم لغة عربية.
بينما تناولت الدراما نمط آخر للمعلم ظهر في عدد كبير من الأعمال السينمائية والتليفزيونية كدور المدرس المستهتر والسلبي عديم المبادئ والأخلاق في فيلم “الإنسان يعيش مرة واحدة” أو المعلم الذي يعاني من مشاكل نفسية واضطرابات تؤثر على سلوك وظيفته في فيلم “زقاق المدق”، أو المدرس الذي أهمل وظيفته واتجه للنصب والاحتيال كفيلم “البيضة والحجر”.
وعن اختلال شخصية وصورة المدرس تذكر “حبيبة فتحي”، مدرسة لغة إنجليزية، خلال حديثها بأن الزمن واختلافه يؤثر في تنوع الأفلام والمسلسلات التي تتناول شخصية المدرس، فحسب قولها فقديمًا جسدت الدراما بالجلباب البلدي الذي يُدرِس لعدد بسيط من الطلاب أمام الطبلية القديمة، ومع تغير الفترة المقبلة اختلفت حتى ملابسه فظهر مرتديًا بدلة تقليدية وبصحبته عصا تضيف له الهيبة وتمكنه من السيطرة، وبمرور السنين تتغير صورة المدرس على حسب الموضة.
وتضيف “مدرسة اللغة الانجليزية” يأن المدرس بعدها يتخلى عن حزمه تدريجيًا كما في شخصية فيلم “رمضان مبروك أبو العلمين حمودة”، فنجد تحول بين الماضي والحاضر والتنازل عن المبادئ “لما المدرس يقعد ويتحطله الشاي والكيك هيبقى له كلمة على العيال بعد كده”، فتعبر هذه الجملة مجازًا عن الفكرة وهي تغير مكانة المهنة وبرغم ذلك نجد اختلاف سمات بعض المدرسين داخل العمل الفني، فقدم مسلسل “حضرة المتهم أبي” الذي عرض سنة 2006 معلم ملتزم بالمبادئ والأخلاق.
وبحسب نقاد الفن، فإن الدراما تحصر المستوى المادي في الفقر فلا يتمكن هذا المعلم من إحداث تغيير، أو تقدمه في صورة شخص جشع يسعى لكسب الأموال من خلال المهنة ولا يهتم بجوهر التعليم، كما يتجه بعض صناع الدراما إلى حصر المدرس في تقديمه لأكثر من مادة تعليمة بعيدة عن تخصصه مثل شخصية المدرس زكريا الدرديري في فيلم “الناظر” صاحب مقولة “مدرس رياضيات وفرنساوي لحد ما يجيبوا مدرس فرنساوي”، فبالرغم من كوميدية الموقف إلا إنها تمثل الواقع حينها.
الدراما فقيرة
وانطلاقًا من مجال عمله وشغفه في مهنة التدريس يمتلك مصطفى أبو الدهب، مدرس أحياء وجيولوجيا، نظرة خاصة إزاء الأعمال الفنية التي تناولت الشخصية، فيقسم الأفلام حسب طريقة تجسيد المهنة وتدرجًا للفترة الزمنية، ففي البداية يستعرض شخصية أستاذ حمام لنجيب الريحاني المغلوب على أمره من الإدارة والطلاب الأغنياء مع انتشار الجهل وعدم الرغبة في التعلم والفقر، فيتجه إلى تعليم ليلى ابنة أحد الوجهاء لسوء المرتبات، ولكن يميل قلبه لها فيحب المدرس طالبته.
ويسترسل “أبو الدهب” بأن المناقشة التي تناولتها الدراما في “البيضة والحجر” و”ضمير أبلة حكمت” فتناولت فترة الثمانينات ومدرسيها ذوي القيم والأخلاق ممن يهتمون بغرس الحق والصواب في نفوس الطلاب، “أنا إذا غلا على شئ تركته، فيكون أرخص ما يكون مهما غلا” فناقش العمل أمور تتعلق بالعصر كنظرية الاستهلاك، وبعدها يتحول مدرس الفلسفة صاحب النظرة الناقدة إلى دجال ومشعوذ، الدجل هو اللعب الذكي بآمال ورغبات الناس” وانتقامًا من المجتمع الذي لم يقدر مبادئه فيقول: “ويل للعالم إذا انحرف المتعلمون وتبهيظ المثقفون”.
ويختتم مدرس الجيولوجيا حديثه عن رؤيته في مسلسل “دايمًا عامر” الذي عُرض سنة 2022، فالمدرس هنا أحد الشخصيات المحورية فعرض العمل مجموعة متنوعة تحمل صفات متقاربة وقد تكون متضاربة، فتمكن تقديم أستاذ لغة عربية استثنائي يجسد معاناة مدرسي العربية وسط عزوف الطلاب عنها، عكس مدرس الكيمياء الذي يفتقر إلى فهم المادة ويردد “الكيمياء يعني حفظ” وهو بسبب جهله أو اهتمامه بالماديات “اترجمت العملية التعليمية لفلوس وأقساط”.
ومن خلال مسلسل “فلانتينو” المعروض سنة 2020، ناقشت الدراما ظاهرة جديدة من وجهة نظر أبو الدهب فقدم العمل مدرسة تعطي دروس خصوصية للطلاب برغم عدم احتياجها للأموال فزوجها يمتلك شركة خاصة، فيرى أنه ليس من المنطقي حاجتها لهذه الدروس الخصوصية فيضيف مستنكرًا “طلعوها بتدي دروس ليه؟، مش فاهم!”، منوها إلى أن المسرحية الأشهر عن التعليم “مدرسة المشاغبين” ومناقشتها لأزمات الإدراة والمدرسين وأسلوب الطلاب والتي يعتبرها اجتماعيًا كمسمار دُق في نعش التعليم المصري، وأنها كانت أولى طرق تخريب للعقول وإفساد وفرض التحكم بتصدير صورة سلبية عن المدرسين بطريقة كوميدية خفية.